هذه قصة حقيقية بكل تفاصيلها, حدثت عندما كنت طفلة صغيرة, ورغم بساطتها وعفويتها, ومرور عشرات السنين عليها, الا أنها تركت بصمة على قلبي حتى الان ،
، وقد انتشلتها من دفتر مذكراتي الذي اصفرت أوراقه, واّثرت أن أنقلها كما هي دون أي تعديل, كي لا أفقدها شيئا من خصوصيات زمنها, وأترك جرح الطفلة يلعب دور الحكواتي.
كانت صديقتي وكنت أحبها جدا, تأتي الي في الصباح الباكر بثوبها المدرسي وشريطها القرمزي, فأمسك بحقيبتي ونذهب معا الى المدرسة,نجلس على مقعد واحد,ندرس معا,نتمشى في الباحة, ونتقاسم شطائر الجبن وقطع الحلوى.
كنت لا أحب أحدا كما أحبها , وقد عتبت على أمي مرة لانها لم تسمني ريما كاسمها, ولكني لم أكن أشعر أنها تحبني بنفس الدرجة, فقد كانت تغار مني لتفوقي عليها, وأحس بسعيها الدائم لمنافستي وانتشال الفوز مني, بيد أني لم أعر هذا الامر جل اهتمامي.
وجاء يوم طلبت منا المعلمة رسم حديقة حيوانات على ورق مقوى وقالت أنها ستضع أجمل عمل في غرفة الادارة, وقد كان عرض أي عمل من أعمالنا في هذه الغرفة أمنية غالية بالنسبة لنا.
خافت ريما من فوزي, لانها تعلم جيدا أن الرسم هوايتي الأسيرة, وأيضا كانت تعتبرني خصما لها يجب الانتصار عليه بأي ثمن, ولهذا كثيرا ما كنت ألمح والدها داخلا الى غرفة الادارة محملا بالهدايا لمديرتنا ومعلمة الصف, حتى لحظت أن ريما أصبحت موضع اهتمامهما ومراعاتهما أكثر من اللازم وبغير حق.
وجاءتني قائلة: ما رأيك يا خلود أن نشترك معا برسم اللوحة, لقد سألت المعلمة وقالت: يمكن أن تشترك تلميذتان بعمل واحد.
أجبتها: ولم لا؟ نرسمها معا واتفقنا أن أذهب اليها في المساء.
حملت ألواني والورق المقوى وذهبت الى بيت ريما بعد أن وعدت والدتي أن تأتي في تمام الساعة السابعة لتعيدني الى البيت.
فوجئت عندما فتحت لي أمها الباب وأخبرتني أنها غير موجودة. قلت : ولكني جئت لنرسم اللوحة معا واني على موعد معها. قالت: عادت ريما من المدرسة وحرارتها مرتفعة, ولم تستطع أن تتناول شيئا لذا اصطحبها والدها الى الطبيب, ادخلي وانتظريها لن تتأخر.
جلست على حافة الكرسي , وعيوني ترقبها من النافذة, وقلبي يرجو أن تكون وعكتها بسيطة, ورحت أنتظرها كما ينتظر القط اللحام في الحي الشعبي أن يفتح دكانه, وبعد مدة رن جرس الباب ركضت اليها, وكانت أمنية خائبة, تمام السابعة, وعلي أن أعود مع أمي.
وشرعت برسم اللوحة بقلم الرصاص وعندما نالت اعجاب أمي, بدأت بتلوينها حتى غدت لوحة رائعة, ولما كنت أضع اللمسات الأخيرة عليها, انسكبت دواة الحبر من يد أخي الذي كان واقفا بقربي يحضر حقيبته وأقلامه لليوم التالي, فأصابت لوحتي بعض البقع الصغيرة التي تحولت الى كبيرة على الورق المقوى.
وانفجرت ببكاء مرير , ولم تستطع الدموع أن ترطب سعير قلبي تلك اللحظة, وكأني فقدت عزيزا.
وبيأس كبير, ذهبت الى سريري, واستسلمت للنوم بعد أن انهكني البكاء.
صحوت في الصباح بمزاج ضبابي, ووقفت أرتدي ثوبي المدرسي, فاذ بي أمام مجسم صغير رائع لحديقة حيوانات !!
لوحة خشبية كانت بمثابة الأرض, سوّرت بأسلاك شائكة وبحشائش اصطناعية, وقد ثبتت داخلها أنواع مختلفة من الحيوانات بشكل منسق,, هنا زرافة,وهناك اصطبل فيه حصانين وهنا قفص داخله نمر وباخر فيل,,, وهناك بحرة صغيرة فيها بط واوز وأشخاص يتمشون في دروب ملتوية بين الحظائر والاقفاص.
لم أصدق,,, انه عمل فني رائع,, التفت الى الوراء فوجدت أمي تبتسم وتسألني : هل أعجبتك؟؟؟ سهرت طوال الليل حتى أنجزتها لك. وصرخت : مدهشة,, مدهشة واندفعت أقبلها وأقبل يديها,,, أشكرك كثيرا يا أمي يا أعظم أم في الدنيا,, لم أتعبت نفسك؟؟ ردت بحنان: كي لا أضيع عليك فرصة الاشتراك بالمسابقة. ودنت من المجسم وقالت : انظري يا حبيبتي ماذا كتبت هنا,, ودهشت عندما قرأت (من عمل التلميذتين خلود وريما).
ونظرت اليها بتعجب فردت بحنان أكبر: لا بأس يا ابنتي, ما ذنبها ان فاجأها المرض؟ لقد كانت تنوي الاشتراك معك,, أليست صديقتك؟؟
هززت برأسي موافقة, بل وفرحة جدا بهذه الفكرة,وأتممت ارتداء ملابسي وأنا أفكر بريما,, بفرحتها عندما سترى اسمها على المجسم, لابد أننا سنفوز بالمرتبة الاولى,,,, كم ستكون فرحتها كبيرة.
وسمعت ضرباتها الخفيفة على الباب, أسرعت اليها, قبلتها وحمدت الله على تحسنها, ثم أغمضت عينيها بيدي وقلت لها: تعالي وانظري وقدتها الى حيث المجسم.
فتحت عينيها وصرخت: ياالله كم هو رائع, أشرت الى حيث يغفو اسمانا كعصفورين صغيرين, وما ان وقع نظرها عليهما حتى تراءى لي عبوسها ثم قالت: ولكن اسمك مكتوب قبل اسمي!!! أذهلتني كلماتها, لكني لزمت الصمت.
حملنا المجسم كل من طرف ومشينا في الطريق بتباهي, وكنا نشتعل سعادة كلما وقعت أنظار المارة عليه.
أدخلناه فور وصولنا الى غرفة الادارة حيث كانت المديرة وجميع المدرسات, وأبدين اعجابهن الشديد به ونالت ريما قسطا وافرا من الثناء, ونابتني كلمة واحدة منه!
اصطففنا في الباحة, وقدمت جميع الرسوم والاعمال الى منضدة كبيرة وقفت خلفها مديرة المدرسة وجميع المعلمات.
وبعد استعراضها جميعا... ساد الصمت بانتظار النتيجة,,, وجاء صوت مديرتنا
من الميكرفون جهورا,,, صفقوا جميعا لزميلتكم الموهوبة ريما التي فازت بالجائزة الاولى.
ودوى في أرجاء الباحة تصفيق حاد,,,, وصعقت,,, يالهول المفاجأة,, طعنتني كلماتها الباردة وسقط التصفيق على أذني كالرصاص,,, وأنا؟؟؟ أين اسمي؟؟؟
وقد علمت المديرة في الصباح أني شريكة به, وأحسست بجسمي متوهجا كسبيكة الذهب تارة,, وباردا كالثلج تارة أخرى,, وهل يمكن أن يحترق الصقيع لحظة؟
شعرت بألم, بجرح , بطعنة,, وتوجعت كتوجع أوراق الخريف تحت أقدام المارة
وكانت ريما واقفة بجانبي,, أحسست أنها تتفرج بفرح شيطاني على الحرائق المشتعلة داخلي...
لم يكن بامكاني أن اشنق مديرتي على حبال قهري, ولم يكن بامكاني أن أهتف لجميع الطالبات بالحقيقة وأخبرهن واحدة واحدة بأني صاحبة حق ولي النصيب الاكبر والاولى من هذا التصفيق
لم يكن البركان المتفجر داخلي من أجلي بل من أجل أمي التي لم تنم.
وعندما عدنا الى الصف قالت لي ريما بمكر ودهاء لم ألحظهما عليها أبدا قبل هذا اليوم: عجبا ان المديرة لم تذكر اسمك أيضا,,, ووجدت نفسي أتصنع الرضا وأقول: بلى ذكرته يبدو أنك لم تنتبهي له,,, من أجل كرامتي وكبريائي
كذبت عليها,,,,, وعدت الى البيت وأنا أبذل جهدا كبيرا لأحافظ على ثباتي, ولأصف لامي التي كانت متلهفة لي اعجاب معلمتي وثناءها علي,,, وقلت لها: لقد فزت يا أمي وصفقوا جميعا لي .
وارتميت في حضنها الدافئ , أقبل يديها بحرارة وعندما رفعت وجهي المبلل بيدها.... لم يكن بامكاني الا أن أقول:
انها دموع الفرح يا أمي.
موضوع: صفعة على قلب تلميذة ... 
27/3/2008, 12:13 pm
