منتديات شلة سوريا
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


 
دخولأحدث الصوربحـثالتسجيلالرئيسية

 

 مدرسة الصالحين (عمر بن عبد العزيز ) الجزء الثالث

اذهب الى الأسفل 
3 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
أحمد عكاش
عضو جديد
عضو جديد



ذكر
الجدي
الفأر
عدد المساهمات : 8
تاريخ الميلاد : 15/01/1949
العمر : 75
العمل/الترفيه : مدرس لغة عربية
المزاج : طبيعي
السٌّمعَة : 0
نقاط : 15
تاريخ التسجيل : 08/11/2010

مدرسة الصالحين (عمر بن عبد العزيز ) الجزء الثالث  Empty
مُساهمةموضوع: مدرسة الصالحين (عمر بن عبد العزيز ) الجزء الثالث    مدرسة الصالحين (عمر بن عبد العزيز ) الجزء الثالث  Icon_minitime9/11/2010, 10:33 am



مدرسة الصالحين بقلم: أحمد عكاش (الجزء الثالث والأخير )

عَنِ الأَوْزَاعِيِّ قَالَ: ((كَانَ (عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ) t يَجْعَلُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ مَالِهِ دِرْهَماً فِي طَعَامِ المُسْلِمِينَ، ثُمَّ يَأْكُلُ مَعَهُمْ)).

فَفِي هَذَا الخَبَرِ ثَلاثَةُ أَوْجُهٍ مُشْرِقَةٍ، أُولاها أَنَّهُ t يُؤَاكِلُ عَامَّةَ المُسْلِمِينَ فَلا يَرَى لِنَفْسِهِ رِفْعَةً عَلَى أَيٍّ مِنْهُمْ، وَثَانِيهِا أَنَّهُ يَدْفَعُ مِنْ خَاصِّ مَالِهِ، مُقَابِلَ مَا يَنَالُهُ مِنْ طَعامٍ يَنَالُهُ كُلُّ مُسْلِمٍ بِلا مُقَابِلٍ، وَثَالُثُها أَنَّهُ لَمْ يَخُصَّ نَفْسَهُ بِطَعَامٍ دُونَ سَائِرِ المُسْلِمِينَ، وَكَانَ بِمَقْدُورِهِ أَنْ يَجْتَلِبَ مِنْ كُلِّ مِصْرٍ نَفَائِسَها وَطَرَائِفَها، لَكِنَّهُ أَضْرَبَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَآثَرَ الزُّهْدَ وَالخَوْفَ مِنَ اللهِ.
*


قَالَتْ (فَاطِمَةُ بِنْتُ عَبْدِ المَلِكِ) زَوْجَةُ (عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ):

-قَدْ يَكُونُ مِنَ الرِّجَالِ مَنْ هُوَ أَكْثَرُ صَلاةً وَصِيَاماً مِنْ (عُمَرَ)، وَلَكِنِّي لَمْ أَرَ مِنَ النَّاسِ أَحَداً قَطُّ أَشَدَّ خَوْفاً مِنْ رَّبِّهِ مِنْ (عُمَرَ)، كَانَ إِذَا دَخَلَ البَيْتَ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي مَسْجِدِهِ فَلا يَزَالُ يَبْكِي وَيَدْعُو حَتَّى تَغْلِبَهُ عَيْنَاهُ، ثُمَّ يَسْتَيْقِظُ فَيَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ لَيْلَتَهُ أَجْمَعَ.

وَطَعَامُهُ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ كُلِّهِ (العَدَسُ)، حَتَّى يَكَادَ لا يَأْكُلُ غَيْرَهُ، فَقَدْ حَدَّثَ أَبُو أُمَيَّةَ الخَصِيُّ، وَهُوَ أَحَدُ الَّذِينَ يَقُومُونَ عَلَى خِدْمَةِ (عُمَرَ) t، لِهَذَا هُوَ كَثِيرُ الدُّخُولِ عَلَيْهِ، مُلازِمٌ لَهُ قَالَ:

-دَخَلْتُ يَوْماً عَلَى مَوْلاتِي، فَغَدَّتْنِي (عَدَساً)، فَقُلْتُ:

- عَدَسٌ ؟.. عَدَسٌ ؟ كُلَّ يَوْمٍ عَدَسٌ ؟!.

قَالَتْ: يَا بُنَيَّ ! هَذَا طَعَامُ مَوْلاكَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ.

وَحَدَّثَ مَيْمُونُ بْنُ مَهْرَانَ قَالَ: قَالَ لِي (عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ):

-حَدِّثْنِي يَا مَيْمُونَ.

قَالَ مَيْمُونُ: فَحَدَّثْتُهُ حَدِيثاً بَكَى مِنْهُ بُكَاءً شَدِيداً، فَقُلْتُ:

-يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ ! لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَبْكِي هَذَا البُكاءَ لَحَدَّثْتُكَ حَدِيثاً أَلْيَنَ مِنْ هَذَا.

فَقَالَ: يَا مَيْمُونُ إِنَّا نَأْكُلُ هَذِهِ الشَّجَرَةَ (العَدَسَ) وَهِيَ - مَا عَلِمْتَ - مُرِقَّةٌ لِلْقَلْبِ، مُغْزِرَةٌ لِلدَّمْعَةِ، مُذِلَّةٌ لِلْجَسَدِ.

وَلْنَنْظُرْ إِلَى صُنُوفِ طَعَامِهِ t فِي سُحُورِهِ اسْتِعْداداً لِلصِّيَامِ، مَاذَا ضَمَّتْ مَائِدَتُهُ t فِي تِلْكَ العَشِيَّةِ يَوْمَ نَوَى الصِّيَامَ ؟، فَلْنُنْصِتْ لِـ (مَسْلَمَةَ) ابْنِ عَمِّهِ وَأَخِي زَوْجَتِهِ يُحَدِّثُنا عَنْ ذَلِكَ، فَيُرْوَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:

-(( دَخَلْتُ عَلَى (عُمَرَ) بَعْدَ الفَجْرِ، فِي بَيْتٍ كَانَ يَخْلُو فِيهِ بَعْدَ الفَجْرِ فَلا يَدْخُلُ عَلَيْهِ فِيهِ أَحَدٌ، فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ بِطَبَقٍ عَلَيْهِ تَمْرٌ - وَكَانَ يُعْجِبُهُ التَّمْرُ - فَرَفَعَ بِكَفِّهِ مِنْهُ فَقَالَ:

-يَا (مَسْلَمَةُ) ! أَتَرَى لَوْ أَنَّ رَجُلاً أَكَلَ هَذَا، ثُمَّ شَرِبَ عَلَيْهِ المَاءَ - فَإِنَّ المَاءَ عَلَى التَّمْرِ طَيِّبٌ - أَكَانَ يَجْزِيهِ إِلَى اللَّيْلِ؟.

قُلْتُ: لا أَدْرِي.

فَرَفَعَ أَكْثَرَ مِنْهُ؛ وَقَالَ: فَهَذَا ؟.

قُلْتُ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، كَانَ كَافِيَهُ دُونَ هَذَا، حَتَّى مَا يُبَالِي أَلاَّ يَذُوقَ طَعَاماً غَيْرَهُ.

قَالَ: فَعَلامَ نَدْخُلُ النَّارَ ؟.

قَالَ (مَسْلَمَةُ): فَمَا وَقَعَتْ مِنِّي مَوْعِظَةٌ مَا وَقَعَتْ هَذِهِ)).

هَذَا طَعَامُ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ وَقْتَ سُحُورِهِ، التَّمْرُ.. بَلِ القَلِيلُ مِنَ (التَّمْرِ)، وَيَخْشَى أَنْ يُدْخِلَهُ الكَثِيرُ مِنْهُ فِي زُمْرَةِ المُبَذِّرِينَ الَّذِينَ هُمْ إِخْوَانُ الشَّيَاطِينِ.

وَلْنُنْصِتِ الآنَ لِـ (نُعَيْم ِبْنِ سَلامَةَ ) خَاشِعِينَ مُتَعَجِّبِينَ حَيْثُ يَقُولُ:

-دَخَلْتُ عَلَى (عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ) فَوَجَدْتُهُ يَأْكُلُ ثُوماً مَسْلُوقاً بِزَيْتٍ وَمِلْحٍ.

وَقَالَ (مَسْلَمَةُ) لِـ (عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ):

- يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ أَمَا تَمَلُّ الخَلَّ وَالزَّيْتَ؟.

قَالَ: إِذَا مَلَلْتُهُما تَرَكْتُهُمَا حَتَّى أَشْتَهِيَهُمَا.

بَعْدَ هَذَا .. أَغَرِيبٌ أَنْ نَتَعَجَّبَ؟. هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُسِطَتْ لَهُ الدُّنْيَا، وَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِ النَّعْمَاءُ مِنْ أَرْبَعِ جِهَاتِ الأَرْضِ فَوَلَّى ذَلِكَ كُلَّهُ ظَهْرَهُ، وَأَقْبَلَ إِلَى مَوْلاهُ، كَانَ إِلَى الأَمْسِ القَرِيبِ مِنْ أَكْثَرِ الفِتْيَانِ بَذْخاً وَتَرَفاً، فَقَدْ حَدَّثَ (عَلِيُّ بْنُ بَذِيمَةَ) عَنْ (عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ) قَالَ: رَأَيْتُهُ بِالمَدِينَةِ وَهُوَ أَحْسَنُ النَّاسِ لِباساً، وَأَطْيَبُ النَّاسِ رِيحاً، وَهُوَ أَخْيَلُ النَّاسِ فِي مِشْيَتِهِ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ يَمْشي مِشْيَةَ الرُّهْبَانِ، فَمَنْ حَدَّثَكَ بَعْدَ (عُمَرَ) أَنَّ المِشْيَةَ سَجِيَّةٌ فَلا تُصَدِّقْهُ.

هَلْ بَلَغَكَ نَبَأُ (المِشْيَةِ العُمَرِيَّةِ) يَا سَيِّدي؟، لا تَذْهَبَنَّ بِكَ الظُّنُونُ بَعِيداً، إِنًَّ هَذِهِ المِشْيَةَ الشَّهِيرَةَ مَا هِيَ إِلاَّ مِشْيَةُ الفَتَى الأُمَوِيِّ المُدَلَّلِ، أَشَجِّ قُرَيْشٍ، لِحُسْنِها وَجمَالِهَا وَتَفَرُّدِها سَمَّاهَا النَّاسُ (العُمَرِيَّةَ)، وَكَانَتِ الغَوَانِي المُنَعَّمَاتُ مِنْ حِسَانِ المَدِينَةِ يَجْهَدْنَ فِي تَعَلُّمِها، وَيُقَلِّدْنَهُ فِيها.

كَانَ يُعْمَلُ لَهُ ثَوْبُ الخَزِّ بِمِائَةِ دِينارٍ فَيَسْتَخْشِنُهُ، وَيَقُولُ:

-مَا أَحْسَنَهُ لَوْلا خُشُونَةٌ فِيهِ.

فَفِي هَذَا المَعْرِضِ حَدَّثَ (رَبَاحُ بْنُ عُبَيْدَةَ) قَالَ:

-كُنْتُ أَتَّجِرُ فَقَالَ لِي (عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ): يَا (رَبَاحُ) اتَّخِذْ لِي كِسَاءَيْنِ خَزّاً أَتَّخِذْ أَحَدَهُمَا مِحْبَساً([1])، وَالآخَرَ شِعَاراً([2]).

فَصَنَعْتُهُمَا لَهُ بِالبَصْرَةِ، فَلَمْ آلُ([3])، ثُمَّ قَدِمْتُ بِهِمَا فَأَمَرَ بِقَبْضِهِمَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَوْتُ عَلَيْهِ([4]) فَقَالَ لِي:

-يَا رَبَاحُ ! مَا أَجْوَدَ ثَوْبَيْكَ لَوْلا خُشُونَةٌ فِيهِمَا.

فَلَمّا اسْتُخْلِفَ (عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ) أََمِيراً لِلْمُؤْمِنِينَ قَالَ لِي: يَا (رَبَاحُ) اتَّخِذْ لِي مِنْ هَذِهِ الجِبَابِ الهَرَوِيَّةِ([5]) الَّتِي فِيهِنَّ صِغَرٌ أَثْوَابَ عَمَلٍ.

فَاشْتَرَيْتُ لَهُ ثَلاثَ شِقَقٍ فَقَطَعْتُ مِنَ الثَّلاثِ جُبَّتَيْنِ خَشِنَتَيْنِ، ثُمَّ أَتَيْتُ بِهِمَا إِلَيْهِ فَقَبَضَهُمَا، فَقَالَ لِي:

-يَا (رَبَاحُ) ! مَا أَجْوَدَ ثَوْبَيْكَ لَوْلا لِينٌ فِيهِمَا.

فَذَكَرْتُ قَوْلَهُ الأَوَّلَ وَقَوْلَهُ الآخِرَ.

وَكَانَ أَبُوهُ (عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ بْنِ الحَكَمِ) قَدْ بَعَثَ بِهِ فِي مُقْتَبِلِ عُمُرِهِ إِلَى (المَدِينَةِ) يَتَأَدَّبُ بِها، فَكَتَبَ إِلَى مُؤَدِّبِهِ (صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ) بِأَنْ يَتَعَاهَدَهُ، فَكَانَ (صَالِحٌ) يُلْزِمُ (عُمَرَ) بِالصَّلَواتِ، فَأَبْطَأَ يَوْماً عَنِ الصَّلاةِ، فَقَالَ: مَا حَبَسَكَ؟.

قَالَ: كَانَتْ مُرَجِّلَتِي تُسَكِّنُ شَعْرِي([6]).

فَقَالَ صَالِحٌ: أَبَلَغَ مِنْكَ حُبُّكَ تَسْكِينَ شَعْرِكَ أَنْ تُؤْثِرَهُ عَلَى الصَّلاةِ؟.

فَكَتَبَ (صَالِحٌ) إِلَى (عَبْدِ العَزِيزِ) بِذَلِكَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ (عَبْدُ العَزِيزِ) رَسُولاً، فَلَمْ يُكَلِّمْهُ حَتَّى حَلَقَ شَعْرَهُ.

وَكَانَ حُسَّادُهُ لا يَجِدُونَ فِيهِ إِلاَّ شَيْئَيْنِ يُعِيبَانِهِ فِيهِما، هُمَا الإِفْرَاطُ فِي النِّعْمَةِ، وَالاخْتِيَالُ فِي المِشْيَةِ، وَلَوْ كَانُوا يَجِدُونَ ثَالِثاً لَجَعَلُوهُ مَعَهُما.

وَمَا كَانَتْ عُطُورُ الجَزِيرَةِ وَلا عُطُورُ اليَمَنِ، وَلا عُطُورُ الشَّامِ وَلا العِرَاقَيْنِ وَلا سِوَاهَا مِنَ العُطُورِ، بِالَّتِي تَنَالُ رَضَا الفَتَى الأُمَوِيِّ، فَكَانَ يُؤْتَى لَهُ العِطْرُ مِنَ الهِنْدِ، أَجَلْ مِنَ الهِنْدِ نَفْسِها يُحْمَلُ إِلَيْهِ وَحْدَهُ أَنْفَسُ الطِّيبِ وَأَغْلاهُ، فَكَانَ إِذَا عَبَرَ مَكاناً تَضَوَّعَ عِطْرُهُ الَّذِي اشْتُهِرَ بِهِ مِنْ بَيْنِ عِبَادِ اللهِ طُرّاً، عَرَفَهُ كُلُّ مَنْ شَمَّ رِيحَ طِيبِهِ وَإِنْ لَمْ يَرَهُ، وَأَشْرَافُ المَدِينَةِ يَرْشُونَ الغَسَّالَةَ الَّتي تَغْسِلُ لَهُ ثِيَابَهُ، لِتَجْعَلَ ثِيَابَهُمْ مَعَ ثِيَابِهِ وَقْتَ غَسِيلِها، لِيَسْرِيَ إِلَى ثِيَابِهِمْ مِنْ أَرِيجِ ثِيَابِهِ.

وَلَكِنْ ... مَا إِنْ وَجَدَ نَفْسَهُ t يَتَرَبَّعُ أَعْلَى عَرْشٍ فِي مَمَالِكِ الأَرْضِ، وَهِيَ إِمَارَةُ المُؤْمِنِينَ، خِلافَةُ رَسُولِ اللهِ r - وَكَانَتْ دَوْلَتَا الفُرْسِ وَالرُّومِ قَدْ دَالَتا([7]) - حَتَّى وَقَفَ يَتَأَمَّلُ نَفْسَهُ، وَيَتَأَمَّلُ مَا حَوْلَهُ فَلَمْ يَرَ شَيْئاً يَمْلأُ العَيْنَ، فَكُلُّ مَا رَآهُ صَائِرٌ إِلَى زَوَالٍ، وَثَمَّةَ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ سَاطِعَةٌ لا يَسَعُهُ تَجَاهُلُهَا أَوِ التَّصَامُمُ عَنْ نَدائِها، هِيَ (مَسْؤُولِيَّتُهُ) أَمَامَ اللهِ عَنْ هَذِهِ البُقْعَةِ الوَاسِعَةِ مِنْ أَرْضِ اللهِ، الَّتِي يَقْطُنُها عِبَادُ اللهِ، هَذِهِ (المَسْؤُولِيَّةُ) أَلْقَتْ بِكُلِّ ثِقَلِها عَلَى رُوحِهِ، فَأَنْسَتْهُ نَفْسَهُ، أَنْسَتْهُ النِّعْمَةَ الَّتِي كَانَ يَتَقَلَّبُ فِيهَا، أَنْسَتْهُ أَطَايِبَ طَعَامِهِ، وَأَنَاقَتَهُ وَاهْتِمَامَهُ بِشَكْلِهِ وَخُيَلاءَهُ، فَتَاقَتْ نَفْسُهُ إِلَى مَا هُوَ أَسْمَى وَأَرْفَعُ، تَاقَتْ نَفْسُهُ إِلَى الانْضِوَاءِ تَحْتَ لِوَاءِ عِبَادِ اللهِ المُخْلَصِينَ، تَاقَتْ نَفْسُهُ إِلَى رِضَا مَلِكِ المُلُوكِ، فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَكَرَّسَ حَيَاتَهُ لِمَمْلَكَةٍ لا تُبَارِيها مَمْلَكَةٌ مِنْ مَمَالِكِ الدُّنْيَا، هِيَ مَمْلَكَةُ خِدْمَةِ اللهِ وَخِدْمَةِ عِبَادِ اللهِ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ:

-إِنَّ لِي نَفْساً ذَوَّاقَةً تَوَّاقَةً،كُلَّمَا ذَاقَتْ شَيْئاً تَاقَتْ إِلَى مَا فَوْقَهُ، فَلَمْ تَزَلْ تَذُوقُ وَتَتُوقُ إِلَى أَنْ ذَاقَتِ الخِلافَةَ، فَتَاقَتْ إِلَى مَا فَوْقَهَا، وَلَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا شَيْءٌ فَوْقَهَا، فَتَاقَتْ إِلَى مَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى فِي الدَّارِ الآخِرَةِ، وَذَلِكَ لا يُنَالُ إِلاَّ بِتَرْكِ الدُّنْيَا.

وَأَخَذَ نَفْسَهُ بِالشِّدَّةِ وَالتَّقَشُّفِ، فَقَدْ قَالَ (عَمْرُو بْنُ مُهَاجِرٍ):

-كَانَتْ نَفَقَةُ (عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ) كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمَيْنِ.

وَهذَانِ الدِّرْهَمَانِ –فِي تِلْكَ الأَيَّامِ- لا يَسُدَّانَ نَفَقَةَ أَبْسَطِ جُنْدِيٍّ مِنْ جُنْدِهِ، حَتَّى أَثَّرَ ذَلِكَ فِي صِحَّتِهِ وَمَظْهَرِهِ؛ فَكَانَ أَحَدُ حُرَّاسِهِ يَقُولُ:

- رَأَيْتُ (عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العَزِيزِ) حِينَ وُلِّيَ وَبِهِ مِنْ حُسْنِ اللَّوْنِ وَجُودَةِ الثِّيابِ وَالبِزَّةِ، ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَيْهِ بَعْدُ وَقَدْ وُلِّيَ فَإِذَا هُوَ قَدِ احْتَرَقَ وَاسْوَدَّ وَلَصِقَ جِلْدُهُ بِعَظْمِهِ، حَتَّى لَيْسَ بَيْنَ الجِلْدِ وَالعَظْمِ لَحْمٌ.

وَحَدَّثَ (أَبُو يُونُسَ بْنُ أَبِي شَبِيبٍ) قَالَ: شَهِدْتُ (عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العَزِيزِ) وَهُوَ يَطُوفُ بِالبَيْتِ، وَإِنَّ حُجْزَةَ إِزَارِهِ([8]) لَغَائِبَةٌ فِي عُكَنِهِ([9])، ثُمَّ رَأَيْتُهُ بَعْدَ مَا اسْتُخْلِفَ وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَعُدَّ أََضْلاعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ أَمَسَّهَا لَفَعَلْتُ.

وَقَالَ (مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ): لَمَّا اسْتُخْلِفَ (عُمَرُ) بَعَثَ إِلَيَّ وَأَنَا بِالمَدِينَةِ، فَقَدِمْتُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا دَخَلْتُ عَلَيْهِ جَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِ نَظَراً لا أَصْرِفُ بَصَرِي عَنْهُ تَعَجُّباً، فَقَالَ:

-يَا (ابْنَ كَعْبٍ) ! إِنَّكَ لَتَنْظُرُ إِلَيَّ نَظَراً مَا كُنْتَ تَنْظُرُهُ.

قُلْتُ: تَعَجُّباً.

قَالَ: مَا أَعْجَبَكَ؟.

قُلْتُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ أَعْجَبَنِي مَا حَالَ مِنْ لَوْنِكَ، وَنَحَلَ مِنْ جِسْمِكَ، وَنَفَشَ مِنْ شَعْرِكَ.

قَالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَيْتَنِي بَعْدَ ثَلاثٍ، وَقَدْ دُلِّيتُ فِي حُفْرَتِي...كُنْتَ لِي أَشَدَّ إِنْكَاراً.
*


وَقَالَ (مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ): (( يَقُولُونَ: [مَالِكٌ زَاهِدٌ]، أَيُّ زُهْدٍ عِنْدَ مَالِكٍ، وَلَهُ جُبَّةٌ وَكِسَاءٌ؟!؛ إِنَّما الزَّاهِدُ (عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ) أَتَتْهُ الدُّنْيَا فَاغِرَةً فَاهَا، فَتَرَكَها جُمْلَةً )).

وَحَدَّثَ (سَعِيدُ بْنُ سُوَيْدٍ) أَنَّ (عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العَزِيزِ) t أَخَّرَ الجُمُعَةَ يَوْماً عَنْ وَقْتِهِ الَّذِي كَانَ يُصَلِّي فِيهِ، فَقَالُوا لَهُ: أَخَّرْتَ الجُمُعَةَ اليَوْمَ عَنْ وَقْتِكَ؟.

قَالَ: إِنَّ الغُلامَ ذَهَبَ بِالثِّيَابِ يَغْسِلُهَا، فَحُبِسَ بِهَا.

فَعَرَفَ النَّاسُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ غَيْرُهَا؛ ثُمَّ صَلَّى بِهِمُ الجُمُعَةَ، وَجَلَسَ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ مَرْقُوعُ الجَيْبِ([10]) مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ:

-يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ ! إِنَّ اللهَ قَدْ أَعْطَاكَ ... فَلَوْ لَبِسْتَ.

فَنَكَّسَ مَلِيّاً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ:

-أَفْضَلُ القَصْدِ عِنْدَ الجِدَةِ([11])، وَأَفْضَلُ العَفْوِ عِنْدَ المَقْدِرَةِ.

وَقَالُوا: لَمْ يَكُنْ لَهُ سِوَى قَمِيصٍ وَاحِدٍ، فَكَانَ إِذَا غَسَلُوهُ جَلَسَ فِي المَنْزِلِ حَتَّى يَيْبَسَ.

وَقَالَ (رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ): كَانَ (عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ) مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ وَأَلْيَنِهِمْ وَأَعْلَمِهِمْ وَأَجْمَلِهِمْ فِي مِشْيَتِهِ وَلُبْسِهِ، وَلَمَّا اسْتُخْلِفَ قُوِّمَتْ ثِيَابُهُ وَعِمَامَتُهُ وَقَمِيصُهُ وَقَبَاؤُهُ([12]) وَخُفَّاهُ وَرِدَاؤُهُ، وَسَراوِيلُهُ وَقَلَنْسُوَتُهُ([13])، فَإِذَا هُنَّ يَعْدِلْنَ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَماً.

كَانَ رَحِمَهُ اللهُ – قَبْلَ أَنْ يَتَبَوَّأَ كُرْسِيَّ الخِلافَةِ – وَاضِحَ الدِّلِّ وَالتَّنَعُمِّ، وَلا أَظُنُّنِي أَظْلِمُهُ إِذَا قُلْتُ إِنَّهُ كَانَ لا يَخْلُو مِنْ شَيْءٍ مِنَ الكِبْرِ قَدْ يَكْثُرُ أَوْ يَقِلُّ، فَقَدْ كَانَ يُرْخِي ثَوْبَهُ عَلَى عَادَةِ فِتْيَانِ ذَلِكَ العَهْدِ، وَبِخَاصَّةٍ أَبْنَاءُ تِلْكَ الفِئَةِ الحَاكِمَةِ المُتْرَفَةِ، فَرُبَّمَا دَخَلَ الثَّوْبُ فِي نَعْلِهِ وَهُوَ يَمْشِي، فَيَشُدُّهُ حَتَّى يَتَقَطَّعَ، وَيَأْنَفُ أَنْ يَنْحَنِيَ لِيَنْتَزِعَهُ، وَقَدْ يَسْقُطُ الرِّدَاءُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ فِي عُرْضِ الطَّرِيقِ، فَيَمْضِي وَلا يَرْفَعُهُ، حَتَّى يَجِيءَ مَنْ يأخُذُهُ، وَقَدْ يَزِيدُ ثَمَنُهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ.

وَالآنَ .. فَلا .. وَأَلْفُ لا، ذَاكَ عَهْدٌ قَدِ انْقَضَى، وَلَمْ يَكْتَفِ t بِأَنْ يُلْزِمَ نَفْسَهُ هَذَا النَّهْجَ مِنَ الانْصِرَافِ عَنْ بَهْرَجَةِ المَظْهَرِ، بَلْ فَرَضَ ذَلِكَ عَلَى ذَوِيهِ أَيْضاً، فَقَدْ مَرَّ بِنَا سَابِقاً كَيْفَ خَلَعَ حَلْيَ زَوْجَتِهِ (فَاطِمَةَ) وَبَعَثَ بِهِ إِلَى بَيْتِ المَالِ، و(فَاطِمَةُ) مَا أَدْرَاكَ مَا فَاطِمَةُ ؟ سَلِيلَةُ الخُلَفَاءِ، فَهِيَ الَّتِي قَالَ فِيها الشَّاعِرُ:


بِنْتُ الخَلِيفَةِ، وَالخَلِيفَةُ جَدُّهَا



أُخْتُ الخَلائِفِ، وَالخَلِيفَةُ زَوْجُهَا



فَلَمْ تَكُنِ امْرَأَةٌ تَسْتَحِقُّ هَذَا البَيْتَ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا غَيْرَهَا.

وَكَانَ يُوسِعُ عَلَى عُمَّالِهِ فِي النَّفَقَةِ، يُعْطِي الرَّجُلَ مِنْهُمْ فِي الشَّهْرِ مِائَةَ دِينَارٍ، وَمِائَتَيْ دِينَارٍ، وَكَانَ يَتَأَوَّلُ: أَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا فِي كِفَايَةٍ تَفَرَّغُوا لأَشْغ‍َالِ المُسْلِمِينَ.

فَقَالُوا لَهُ: لَوْ أَنْفَقْتَ عَلَى عِيَالِكَ كَمَا تُنْفِقُ عَلَى عُمَّالِكَ؟.

فَقَالَ: عِيَالِي لا أَمْنَعُهُمْ حَقّاً لَهُمْ، وَلا أُعْطِيهِمْ حَقَّ غَيْرِهِمْ.

لِهَذَا لَمْ يَكُنْ عِيَالُهُ tبِمَنْجًى عَنِ الشِّدَّةِ الَّتِي إِلَى عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَأْخُذَ نَفْسَهُ بِها، فَقَدْ كَانَتْ لَهُ ابْنَةٌ يُقَالَ لَهَا (أَمِينَةُ) فَدَعَاهَا يَوْماً:

-يَا أَمِينُ ! يَا أَمِينُ !

فَلَمْ تُجِبْهُ، فَأَمَرَ إِنْسَاناً فَجَاءَ بِهَا، فَقَالَ:

-مَا مَنَعَكِ مِنْ أَنْ تُجِيبِيني؟.

قَالَتْ: إِنِّي عَارِيَةٌ.

فَقَالَ: يَا مُزَاحِمُ ! انْظُرْ تِلْكَ الفُرُشَ الَّتِي فَتَقْنَاهَا، فَاقْطَعْ لَهَا مِنْهَا قَمِيصاً.

فَقَطَعَ مِنْهَا قَمِيصاً، فَذَهَبَ إِنْسَانٌ إِلَى أُمِّ البَنِينَ عَمَّتِهَا، فَقَالَ:

-بِنْتُ أَخِيكِ عَارِيَةٌ وَأَنْتِ عِنْدَكِ مَا عِنْدَكِ؟!.

فَأَرْسَلَتْ إِلَْيَها بِتَخْتٍ([14]) مِنَ الثِّيَابِ، وَقَالَتْ لَهَا:

-لا تَطْلُبِي مِنْ (عُمَرَ) شَيْئاً.
*


وَقَدْ بَلَغَهُ t أَنَّ ابْناً لَهُ اشْتَرَى فَصّاً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ؛ فَتَخَتَّمَ بِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ:

-عَزِيمَةً مِنِّي إِلَيْكَ لَمَا بِعْتَ الفَصَّ([15]) الَّذِي اشْتَرَيْتَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَتصَدَّقْتَ بِثَمَنِهِ، وَاشْتَرَيْتَ فَصّاً بِدِرْهَمٍ وَاحِدٍ، وَنَقَشْتَ عَلَيْهِ:

(رَحِمَ اللهُ امْرَأً عَرَفَ قَدْرَهُ)، وَالسَّلامُ.

مَا أَخْوَفَكَ مِنَ اللهِ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، يَا قُدْوَةَ الأُمَراءِ الصَّالِحِينَ، يَا أُسْتَاذَ الزَّاهِدينَ، لَكِنَّ مَذْهَبَكَ هَذَا لا رَيْبَ سَيُثِيرُ عَلَيْكَ حَفِيظَةَ أُنَاسٍ كَثِيرِينَ، فَقِيلَ إِنَّ بَعْضَ بَِني أُمَيَّةَ قَدْ تَبَرَّمُوا بِهِ؛ لِكَوْنِهِ شَدَّدَ عَلَيْهِمْ، وَانْتَزَعَ كَثِيراً مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ، وَكَانَ قَدْ أَهْمَلَ التَّحَرُّزَ، فَدَسُّوا لَهُ غُلاماً سَقَاهُ السُّمَّ، ثُمَّ دَعَا (عُمَرُ) t الغُلامَ إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ:

- وَيْحَكَ، مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ تَسْقِيَنِي السُّمَّ؟.

قَالَ: أَلْفُ دِينَارٍ أُعْطيتُهَا، وَعَلَى أَنْ أُعْتَقَ.

قَالَ عُمَرُ: هَاتِهَا.

فَأَلْقَاهَا فِي بَيْتِ مَالِ المُسْلِمِينَ، وَقَالَ: اذْهَبْ حَيْثُ لا يَرَاكَ أَحَدٌ.

وَيَسْتَلْقِي t عَلَى فِراشٍ حَشْوُهُ لِيفٌ، يُضِيءُ عَلَيْهِ سِرَاجٌ عَلَى ثَلاثِ قَصَبَاتٍ، فَوْقَهُنَّ طِينٌ، مُوقِناً أَنَّهُ يَخْطُو أُولى خُطُواتِهِ إِلَى الدَّارِ الآخِرَةِ، قَالَ (مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ المَلِكِ):

-دَخَلْتُ عَلَى (عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ) فِي اليَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ عَبْدِ المَلِكِ - وَهِيَ أُخْتِي- جَالِسَةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَلَمَّا رَأَتْنِي تَحَوَّلَتْ وَجَلَسَتْ عِنْدَ رِجْلَيْهِ، وَجَلَسْتُ أَنَا عِنْدَ رَأْسِهِ، فَإِذَا عَلَيْهِ قَمِيصٌ وَسِخٌ مُخَرَّقُ الجَيْبِ، فَقُلْتُ لَهَا:

-يَا فَاطِمَةُ ! اِغْسِلُوا قَمِيصَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ، أَوْ بَدِّلُوهُ لَهُ.

فَقَالَتْ: نَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللهُ.

وَغِبْتُ عَنْهُمْ لِبَعْضِ شَأْني ثُمَّ عُدْتُ مِنَ الغَدِ، فَإِذَا بِالقَمِيصِ عَلَى حَالِهِ، فَقُلْتُ لَهَا:

-يَا فَاطِمَةُ ! أَلَمْ آمُرْكُمْ أَنْ تَغْسِلُوا قَمِيصَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ؟! فَإِنَّ النَّاسَ يَعُودُونَهُ.

فَسَكَتَتْ، فَقَالَ (مَسْلَمَةُ) لأُخْتِهِ:

-نَاوِلِينِي قَمِيصاً سِوَى هَذَا، حَتَّى نُلْبِسَهُ أَمِيرَ المُؤْمِنينَ، فَإِنَّ النَّاسَ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِ.

ثُمَّ أَعَدْتُ القَوْلَ عَلَيْهَا مِرَاراً حَتَّى غَلَّظْتُ، فَقَالَ عُمَرُ t:

-دَعْهَا يَا مَسْلََمَةُ، فَمَا أَصْبَحَ وَلا أَمْسَى لأَمِيرِ المُؤْمِنينَ ثَوْبٌ غَيْرُ الَّذِي تَرَى عَلَيْهِ.

هَذَا الاعْتِرَافُ مِنَ الزَّوْجِ شَجَّعَ الزَّوْجَةَ، فَقَالَتْ: وَاللهِ مَالَهُ قَمِيصٌ غَيْرُهُ.

لِلَّهِ مَا أَرْوَعَ هَذِهِ النَّفْسَ السَّامِيَةَ، مَا أَرْوَعَ أَخْلاقًا جَعَلَتْ حَاكِماً مَلَكَ مِنَ الدُّنْيَا مَا يُمَكِّنُهُ أَنْ يَلْبَسَ الحَرِيرَ، وَيَأْكُلَ العَسَلَ المَشُورَ([16])، وَيَكْفِيهِ أَنْ يُشيرَ بِإِصْبَعِهِ حَتَّى تُحْمَلَ إِلَيْهِ الدُّنْيَا بِما حَوَتْ لِيَخْتَارَ مِنْهَا مَا يَحْلُو لَهُ، أَخْلاقاً جَعَلَتْ صَاحِبَها يَكْتَفِي مِنْ دُنْيَاهُ بِقَمِيصٍ وَاحِدٍ لا يَجِدُ مَا يَلْبَسُهُ إِنْ هُوَ غَسَلَهُ.

أَلا إِنَّها مَدْرَسَةُ التَّوَاضُعِ، فَقَدْ كَانَ التَّوَاضُعُ مِنْ أَرْوَعِ أَخْلاقِهِ وَأَدَبِهِ t، وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا فِيهِ - وَهِيَ جَمَّةٌ - عِنْدَمَا حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُوصِيَ بِدَفْنِهِ إِلَى جَانِبِ رَسُولِ اللهِ r وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ y فَقَالَ t:

- ( وَاللهِ لأََنْ يُعَذِّبَنِيَ اللهُ بِكُلِّ عَذَابٍ إِلاَّ النَّارَ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَعْلَمَ اللهُ مِنِّي أَنِّي أَرَى نَفْسِي أَهْلاً لِهَذَا المَوْضِعِ ).

رَحِمَكَ اللهُ يَا (عُمَرُ)، يَا خامِسَ الخُلَفَاءِ الرَّاشدِينَ .. يَا مَدْرَسَةَ الصَّالِحينَ، وَعَمِيدَ الزَّاهِدينَ.
انتهت





[1]- المِحْبَسُ: قُمَاشٌ يُطْرَحُ عَلَى ظَهْرِ الفِرَاشِ لِلنَّوْمِ عَلَيْهِ.


[2]- الشِّعَارُ: ثَوْبٌ يُلْبَسُ تَحْتَ الثِّيَابِ مُلامِساً اللَّحْمَ.


[3]- فَلَمْ آلُ: أَيْ لَمْ أَدَّخِرْ جُهْداً فِي تَحْسِينِهَا وانْتِقَاءِ قُمَاشٍ حَسَنٍ لِصُنْعِهَا..


[4]- غَدَوْتُ عَلَيْهِ: بَكَّرْتُ إِلَيْهِ.


[5]- الهَرَوِيَّةُ: الثِيَابُ المَصْنُوعَةُ فِي (هَرَاةَ)، وَهِيَ بَلْدَةٌ فِي خُرَاسَان أَوْ فِي فَارِسَ.


[6]- مُرَجِّلَتِي تُسَكِّنُ شَعْرِي: مَاشِطَتِي تُسَرِّحُ لِي شَعْرِي.


[7]- دَالَتْ دَوْلَةُ فُلانٍ: انْتَهَى عَهْدُهَا وَتَحَوَّلَتْ إِلَى سِوَاهُ.


[8]- حُجْزَةَُ الإِزَارِ: مَعْقِدُهُ فِي وَسَطِ الإِنْسَانِ. وَحُجْزَةُ السَّراوِيلِ: مَوْضِعُ التِّكَّةِ مِنْها.


[9]- العُكَنُ: جَمْعُ (العُكْنَةِ): وَهِيَ الطَّيَّةُ الَّتِي فِي البَطْنِ مِنَ السِّمَنِ.


[10]- جَيْبُ الثَّوْبِ: الفُتْحَةُ حَيْثُ يُدْخِلُ مِنْهَا اللاَّبِسُ رَأْسَهُ لِيَلْبَسَهُ.


[11]- أَفْضَلُ القَصْدِ عِنْدَ الجِدَةِ: خَيْرُ الاعْتِدالِ وَالاقْتِصَادِ فِي النَّفَقَةِ مَا كَانَ عِنْدَ الغِنَى.


[12]- القَبَاءُ: ثَوْبٌ يُلْبَسُ.


[13]- القَلَنْسُوَةُ: نَوْعٌ مِنْ الأَلْبِسَةِ تُوضَعُ عَلَى الرَّأْسِ.


[14]- التَّخْتُ: وِعَاءٌ تُصَانُ فِيهِ الثِّيَابُ، جَمْعُهُ: (تُخُوتٌ).


[15]-الفَصُّ: الخَاتَمُ يُجْعَلُ فِي الإِصْبَعِ.


[16]- العَسَلُ المَشُورُ: الخَالِصُ، المُصَفَّى مِنْ شَمْعِهِ.





الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
soofy
: مديرة المنتدى الإسلامي :
: مديرة المنتدى الإسلامي :
soofy


انثى
الحمل
الحصان
عدد المساهمات : 1496
تاريخ الميلاد : 27/03/1930
العمر : 94
العمل/الترفيه : مشاكسة
المزاج : رآآآآآيقه على الآخر
علم الدولة : مدرسة الصالحين (عمر بن عبد العزيز ) الجزء الثالث  SyriaC
مزاجك اليوم : مدرسة الصالحين (عمر بن عبد العزيز ) الجزء الثالث  W5610
المهنة : مدرسة الصالحين (عمر بن عبد العزيز ) الجزء الثالث  Profes10
الهواية : مدرسة الصالحين (عمر بن عبد العزيز ) الجزء الثالث  Writin10
السٌّمعَة : 49
نقاط : 1697
تاريخ التسجيل : 04/10/2010

مدرسة الصالحين (عمر بن عبد العزيز ) الجزء الثالث  Empty
مُساهمةموضوع: رد: مدرسة الصالحين (عمر بن عبد العزيز ) الجزء الثالث    مدرسة الصالحين (عمر بن عبد العزيز ) الجزء الثالث  Icon_minitime9/11/2010, 11:28 pm

رحمة الله على الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز و رضي عنه و ارضاه


ندعو الله ان يمن على العرب والمسلمين برجل يحمل حكمته و تصرفه

أخ أحمد

رعاك الله و حفظك على الموضوع و المجهود القيم


بأنتظار الجديد و بشوق
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://www.facebook.com/?ref=home
yassin
مشرف القسم الاسلامي والمكتبة الأدبية
مشرف القسم الاسلامي والمكتبة الأدبية



ذكر
عدد المساهمات : 711
علم الدولة : مدرسة الصالحين (عمر بن عبد العزيز ) الجزء الثالث  3dflagsdotcom_egypt_2fawm
مزاجك اليوم : مدرسة الصالحين (عمر بن عبد العزيز ) الجزء الثالث  110
المهنة : مدرسة الصالحين (عمر بن عبد العزيز ) الجزء الثالث  Profes10
الهواية : مدرسة الصالحين (عمر بن عبد العزيز ) الجزء الثالث  Chess10
السٌّمعَة : 22
نقاط : 1115
تاريخ التسجيل : 16/04/2010

مدرسة الصالحين (عمر بن عبد العزيز ) الجزء الثالث  Empty
مُساهمةموضوع: رد: مدرسة الصالحين (عمر بن عبد العزيز ) الجزء الثالث    مدرسة الصالحين (عمر بن عبد العزيز ) الجزء الثالث  Icon_minitime30/11/2010, 9:33 pm

مدرسة الصالحين (عمر بن عبد العزيز ) الجزء الثالث  587131
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
مدرسة الصالحين (عمر بن عبد العزيز ) الجزء الثالث
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» مدرسة الصالحين (عمر بن عبد العزيز )الجزء الأول
» مدرسة الصالحين (عمر بن عبد العزيز ) الجزء الثاني
» قصة باب الحارة الجزء الثالث
» نونية القحطاني الجزء الثالث
» حلقات القناص الجزء الثالث !!

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات شلة سوريا :: ¨¨°؛©o.,,.o©؛°¨¨°؛© المــــنـتـدى الأدبـــي ©؛°¨¨°؛©o.,,.o©؛°¨¨ :: المكتبة الادبية-
انتقل الى: